فصل: سنة ثماني وعشرين ومائتين وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة ثماني وعشرين ومائتين وألف:

.شهر المحرم سنة 1228:

استهل المحرم بيوم الاثنين، وفيه وصل الخبر من الجهة القبلية بأن إبراهيم بك ابن الباشا قبض على أحمد أفندي ابن حافظ أفندي الذي بيده دفاتر الرزق الأحباسية وشنقه وضرب قاسم أفندي بن أمين الدين كاتب الشهر علقة قوية، وكان والده أصحبهما معه ليباشرا معه الأمور ويعرفاه الأحوال وكان قاسم أفندي خصيصاً به مثل الوزير والصاحب والنديم ورتب له الباشا في كل سنة ثمانين كيساً خلاف الخروج والكساوي وشرط عليه المناصحة في كشف المستورات وما يكون فيه تحصيل الأموال فكأنه قصر في كشف بعض الأشياء وأرسل إلى والده يعلمه بخيانته هو وكاتب الأرزاق وأنهما منهمكان في ملاذهما فأذن له في فعله بهما ما ذكر وأخذ ما كانا يجمعاه لأنفسهما وأظهر أنه إنما فعل ذلك بهما عقوبة على ارتكابهما المعصية.
وفي عشرينه، حضر إبراهيم بك المذكور إلى مصر وفيه حصلت منافسة بين حسين أفندي الروزنامجي وبين شخصين من كتابه وهما مصطفى أفندي باش جاجرت وقيطاس ولعل ذلك بإغراء باطني على حسين أفندي فرفعا أمرهما إلى الباشا وعرفاه عن مصارف وأمور يفعلها حسين أفندي ويخفيها عن الباشا وأنه إذا حوسب على السنين الماضية يطلع عليه ألوف من الأكياس، فعندما سمع ذلك أمرهما بمباشرة حسابه عن أربع سنوات متقدمة فخرجا من عدنه وأخذا صحبتهما مباشراً تركيا ونزلوا على حسين غفلة بعد العصر وتوجهوا إلى منزل أخيه عثمان أفندي السروجي ففتحوا خزانة الدفاتر وأخذوها بتمامها إلى بيت ابن الباشا إبراهيم بك الدفتردار واجتمعوا في صبحها للمحاققة والحساب مع أخيه عثمان أفندي المذكور واستمروا في المناقشة والمحاققة عدة أيام مع المرافعة والمدافعة والميل الكلي على حسين أفندي ويذهبون في كل ليلة يخبرون الباشا بما يفعلون وبالقدر الذي ظهر عليه فيعجبه ذلك ويثني عليهما ويحرضهما على التدقيق فتنتفخ أوداجهما ويزيدان في الممانعة والمدافعة والمرافعة في الحساب وحسن أفندي على جليته ويظن أنه على عادته في كونه مطلق التصرف في الأموال الميرية ويبلغها إذا سئل فيها للقائم بالدولة إيراداً ومصرفاً ليكون إجمالاً لا تفصيلاً لكونه أميناً وعدلاً وكان الإيراد والمصرف محرراً أو مضبوطاً في الدفاتر التي بأيدي الأفندية الكتاب ومن انضم إليهم من كتاب اليهود في دفاترهم أيضاً بالعبراني لتكون كل فرقة شاهدة وضابطة على الأخرى فلما استقل هذا الباشا بمملكة الديار المصرية واستغول في تحصيل الأموال بأي وجه واستحدث أقلام المكوس وجعلها في دفاتر تحت أيدي الأفندية وكتبة الروزنامة فصارت من جملة الأموال الميرية في قبضها وصرفها وتحاويلها والباشا مرخى العنان للروزنامجي ومرخص له في الإذن والتصرف والروزنامجي كذلك مرخي العنان لأحد خواص كتابه المعروف بأحمد اليتيم لفطانته ودرايته فكان هو المشار إليه من دون الجميع ويتطاول عليهم ويمقت من فعل فعلاً دون اطلاعه وربما سبه ولو كان كبيراً أو أعلى منزلة منه في فنه فيمتلئ غيظاً وينقطع عن حضور الديوان فيهمله ولا يسأل عنه والأفندي الكبير الذي لا يخرج عن رأيه لكونه ساد أمسد الجميع فدبروا على أحمد أفندي المذكور وحفروا له وأغروا به حتى نكبه الباشا وصادره في ثمانين كيساً ومخدومه حسين أفندي في أربعمائة كيس وانقطع أحمد أفندي عن حضور الديوان وتقدم المتأخر وضم الباشا إلى ديوانهم من طرفه خليل أفندي وسموه كاتب الذمة بمعنى أنه لا يكتب تحويل ولا ورقة ميرى ولا خلاف ذلك مما يسطر في ديوانهم حتى يطلع عليه خليل أفندي المذكور ويرسم عليه علامته فأحاط علمه بجميع أسرارهم وكل قليل يستخبر منه الباشا فيحيطه بمعلوماته، ولم يزل حتى تحول ديوانهم وانتقل إلى بيت خليل أفندي تجاه منزل إبراهيم بك ابن الباشا بالأزبكية وترأس بالديوان قاسم أفندي كاتب الشهر وقريبه قيطاس أفندي ومصطفى أفندي باش جاجرت وبعد مدة أشهر سافر إبراهيم بك وأخذ صحبته قاسم أفندي على الصورة المتقدمة والروزنامجي وولده محمد أفندي يراعيان جانب رفيقيه ولا يتعرضان لهما فيما يتصدران له ويضمانه في عهدتهما. فلما وصل الخبر بنكبة إبراهيم بك لقاسم أفندي، فعند ذلك قصر معهما وأظهر ابن الروزنامجي مكمون غيظه في حقهما ومانعهما أيضاً وخشن القول لهما فاتفقا على إنهاء الحال إلى باب الباشا ففعلا ما ذكر، وكان حسين أفندي عندما استأذن الباشا في صرف ما يتعلق بمشايخ العلم والأفندية الكتبة والسيد محمد المحروقي بالكامل وما عداهم ربع استحقاقهم وكتب له فرماناً بذلك فقال له الروزنامجي في بعضهم من يستحق المراعاة كبعض أهل العلم الخاملين وأهل الحرمين المهاجرين ومستوطنين بمصر بعيالهم وليس لهم إيراد يتعيشون منه إلا ما هو مرتب لهم من العلائف في كل سنة وكذلك بعض الملتزمين الذين اعتادوا سداد ما عليهم من الميري وبعضه بما لهم من الإتلافات والعلائف والغلال فقال له النظر في ذلك لرأيك فإن هذا شيء يعسر ضبط جزئياته فاعتمد ذلك وطفق يفعل في البعض بالنصف والبعض بالثلث أو الثلثين، وأما العامة والأرامل فيصرف لهم الربع لا غير حسب الأمر ويقاسون في تحصيل ربع استحقاقهم الشدائد من السعي وتكرار الذهاب والتسويف والرجوع في الأكثر من غير شيء مع بعد المسافة وفيهم الكثير من العواجز، فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع وطلع إلى الباشا فعرفه بذلك فقال الباشا لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني وما كان بدون ذلك فلا وأنكر الحال السابق منه له وقال هو متبرع فيما فعله فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات، وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالاً على الحلة التي هو معه عليها فرجعوا عليه في كثير من ذلك وتأخر عليه مبلغ كبير أيضاً فتتموا حساب سنة واحدة على هذا النسق فبلغت نحو الألف كيس ومائتي كيس وكسور تبلغ في الأربع سنوات خمسة آلاف كيس فتقلق حسن أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه، ولم يجد مغيثاً ولا شافعاً ولا دافعاً. ر شيء مع بعد المسافة وفيهم الكثير من العواجز، فلما ترافعوا في الحساب مانع المتصدر فيما زاد على الربع وطلع إلى الباشا فعرفه بذلك فقال الباشا لا تخصموا له إلا ما كان بإذني وفرماني وما كان بدون ذلك فلا وأنكر الحال السابق منه له وقال هو متبرع فيما فعله فتأخر عليه مبلغ كبير في مدة أربع سنوات، وكذلك كان يحول عليه حوالات لكبار العسكر برسول من أتباعه فلا يسعه الممانعة ويدفع القدر المحول عليه بدون فرمان اتكالاً على الحلة التي هو معه عليها فرجعوا عليه في كثير من ذلك وتأخر عليه مبلغ كبير أيضاً فتتموا حساب سنة واحدة على هذا النسق فبلغت نحو الألف كيس ومائتي كيس وكسور تبلغ في الأربع سنوات خمسة آلاف كيس فتقلق حسن أفندي وتحير في أمره وزاد وسواسه، ولم يجد مغيثاً ولا شافعاً ولا دافعاً.
وفي أواخره، عمل الباشا مهماً لختان ابن بونابارته الخازندار الغائب ببلاد الحجاز وعملوا له زفة في يوم الجمعة بعد الصلاة اجتمع الناس للفرجة عليها.
وفيه أيضاً زاد الإرجاف بحصول الطاعون وواقع الموت منه بالإسكندرية فأمر الباشا كورنتينه بثغر رشيد ودمياط والبراس وشبرا وأرسل إلى الكاشف الذي بالبحيرة بمنع المسافرين المارين من البر وأمر أيضاً بقراءة صحيح البخاري بالأزهر، وكذلك يقرأون بالمساجد والزوايا سورة الملك والأحقاف في كل ليلة بنية رفع الوباء فاجتمعوا إلا قليلاً بالأزهر نحو ثلاثة أيام، ثم تركوا ذلك وتكاسلوا عن الحضور.
وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه، كسفت الشمس وقت الضحوة، وكان المنكسف نحو ثلاثة أرباع الجرم وكانت الشمس في برج الدلو أيام الشتاء فأظلم الجو إلا قليلاً، ولم ينتبه له كثير من الناس لظنهم أنها غيوم متراكمة لأنهم في فصل الشتاء.

.شهر صفر سنة 1228:

واستهل شهر صفر بيوم الأربعاء، وفيه في أخريات النهار هبت ريح جنوبية غربية عاصفة باردة واستمرت لعصر يوم السبت وكانت قوتها يوم الجمعة أثارت غباراً أصفر ورمالاً مع غيم مطبق وقتام ورش مطر قليل في بعض الأوقات.
وفي يوم الثلاثاء سابعه، وردت بشائر من البلاد الحجازية باستيلاء العساكر على جدة ومكة من غير حرب، وذلك أنه لما انهزمت الأتراك في العلم الماضي ورجعوا على الصورة التي رجعوا عليها مشتتين ومتفرقين وفيهم من حضر من طريق السويس ومنهم من أتى من البر ومنهم من حضر من ناحية القصير ونفى الباشا من استعجل بالهزيمة والرجوع من غير أمره ويخشى صولته ويرى في نفسه أنه أحق بالرياسة منه مثل صالح قوج وسليمان وحجو وأخرجهم من مصر واستراح منهم، ثم قتل أحمد آغا لاظ جدد ترتيباً آخر وعرفه كبراء العرب الذين استمالهم واندرجوا معه وشيخ الحويطات أن الذي حصل لهم إنما هو من العرب الموهبين وهم عرب حرب والصفراء وأنهم مجهودون والوهابية لا يعطونهم شيئاً ويقولون لهم قاتلوا عن دينكم وبلادكم فإن بذلتم لهم الأموال وأغدقتم عليهم بالأنعام والعطاء ارتدوا ورجعوا وصاروا معكم وملكوكم البلاد فاجتهد الباشا في جمع الأموال بأي وجه كان واستأنف الطلب ورتب الأمور وأشاع الخروج بنفسه ونصب العرضي خارج بالموكب، كما تقدم وجلس بالصيوان وقرر للسفر في المقدمة بونابارته الخازندار وأعطاه صناديق الأموال والكساوي وأرفق معه عابدين بك ومن يصحبهما وواظب على الخروج إلى العرضي والرجوع تارة إلى القلعة وتارة إلى الأزبكية والجيزة وقصر شبرا ويعمل الرماحة والميدان في يومي الخميس والاثنين والمصاف على طرائق حرب الإفرنج وسافر بونابارته في أواخر شعبان واستمر العرضي منصوباً والطلب كذلك مطلوباً والعساكر واردة من بلادها على طريق الإسكندرية ودمياط ويخرج الكثير إلى العرضي ويستمرون على الدخول إلى المدينة في الصباح لقضاء أشغالهم والرجوع أخريات النهار مع تعدي أذاهم للباعة والحمارة وغيرهم ولما غدر الباشا بأحمد آغا لاظ وقتله في أواخر رمضان، ولم يبق أحد ممن يخشى سطوته وسافر عابدين بك في شوال وارتحل بعده بنحو شهر مصطفى بك داني باشا وصحبته عدة وافرة من العسكر، ثم سافر أيضاً يحيى آغا ومعه نحو الخمسمائة وهكذا كل قليل ترحل طائفة بعد أخرى والعرضي كما هو ميدان الرماحة وكذلك، ولما وصل بونابارته إلى ينبع البر أخذوا في تأليف العربان واستمالتهم وذهب إليهم ابن شديد الحويطي ومن معه وتقابلوا مع شيخ حرب، ولم يزالوا به حتى وافقهم وحضروا به إلى بونابارته فأكرمه وخلع عليه الخلع، وكذلك على من حضر من أكابر العربان فألبسهم الكساوي والفراوي السمور والشالات الكشميري، ففرق عليهم من الكشمير ملء أربع سحاحير وصب عليهم الأموال وأعطى لشيخ حرب مائة ألف فرانسة عين وحضر باقي المشايخ فخلع عليهم وفرق فيهم فخص شيخ حرب بمفرده ثمانية عشر ألف فرانسة، ثم رتب لهم علائف تصرف لهم في كل شهر لكل شخص خمسة فرانسة وغرارة بقسماط وغرارة عدس، فعند ذلك ملكوهم الأرض والذي كان متأمراً بالمدينة من جنسهم فاستمالوه أيضاً وسلم لهم المدينة وكل ذلك بمخامرة الشريف غالب أمير مكة وتدبيره وإشارته، فلما تم ذلك أظهر الشريف غالب أمره وملكهم مكة والمدينة، وكان ابن مسعود الوهابي حضر في الموسم وحج، ثم ارتحل إلى الطائف وبعد رحيله فعل الشريف غالب فعله وسيلقي جزاءه، ولما وصلت البشائر بذلك في يوم الثلاثاء سابعه ضربوا مدافع كثيرة ونودي في صبح ذلك بزينة المدينة ومصر وبولاق فزينوا خمسة أيام أولها الأربعاء وآخرها الأحد وقاسى الناس في ليالي هذه الأيام العذاب الأليم من شدة البرد والصقيع وسهر الليل الطويل، وكان ذلك في قوة فصل الشتاء وكل صاحب حانوت جالس فيها وبين يديه مجمرة نار يتدفأ ويصطلي بحرارتها وهو ملتف بالعباءة والأكسية الصوف أو اللحاف وخرج الباشا من ليلة الأربعاء المذكور ونصبت الخيام وخرجت الجمال المحملة باللوازم من الفرش والأواني وأزيار الماء والبارود لعمل الشنائك والحرائق وفي كل يوم يعمل مرماح وشنك عظيم مهول بالمدافع وبنادق الرصاص المتواصلة من غير فاصل مثل الرعود والطبول من طلوع الشمس إلى قريب الظهر وفي أول يوم من أيام الرمي أصيب إبراهيم بك ابن الباشا برصاصة في كتفه أصابت شخصاً من السواس ونفذت منه إليه وهي باردة فتعلل بسببها وخرج بعد يومين في عربة إلى العرضي، ثم رجع، ولما كان يوم الأحد وقت الزوال ركب الباشا وطلع إلى القلعة وقلعوا خيام الشنك وحملوا الجمال ودخلت طوائف العسكر وأذن للناس بقلع الزينة ونزول التعاليق وكان الناس قد عمروا القناديل وأشاعوا أنها سبعة أيام، فلما حصل الإذن بالرفع فكأنما نشطوا من عقال وخلصوا من السجون لما قاسوه من البرد والسهر وتعطيل الأشغال وكساد الصنائع والتكليف بما لا طاقة لهم به وفيهم من لا يملك قوت عياله أو تعمير سراجه فيكلف مع ذلك هذه التكاليف، وكتب الباشا بالبشائر إلى دار السلطنة وأرسلها صحبة أمين جاويش، وكذلك إلى جميع النواحي وأنعم بالمناصب على خواصه. نزول التعاليق وكان الناس قد عمروا القناديل وأشاعوا أنها سبعة أيام، فلما حصل الإذن بالرفع فكأنما نشطوا من عقال وخلصوا من السجون لما قاسوه من البرد والسهر وتعطيل الأشغال وكساد الصنائع والتكليف بما لا طاقة لهم به وفيهم من لا يملك قوت عياله أو تعمير سراجه فيكلف مع ذلك هذه التكاليف، وكتب الباشا بالبشائر إلى دار السلطنة وأرسلها صحبة أمين جاويش، وكذلك إلى جميع النواحي وأنعم بالمناصب على خواصه.
وفي هذا الشهر، وردت أخبار بوقوع أمطار وثلوج كثيرة بناحية بحري وبالإسكندرية ورشيد بحدود الغربية والمنوفية والبحيرة وشدة برد ومات من ذلك أناس وبهائم والزروع البدرية وطف على وجه الماء أسماك موتى كثيرة، فكان موج البحر يلقيه على الشطوط وغرق كثير من السفن من الرياح العواصف التي هبت في أول الشهر.
وفي سابعه يوم وصول البشارة أحضر الباشا حسين أفندي الروزنامجي وخلع عليه خلعة الإبقاء على منصبه في الروزنامة وقرر عليه ألفين وخمسمائة كيس، وذلك أنهم لما رافعوه في الحساب على الطريقة المذكورة وأرسل إليه الباشا بطلب خمسمائة كيس من أصل الحساب فضاق خناقه، ولم يجد له شافعاً ولا ذا مرحمة فأرسل ولده إلى محمود بك الدويدار يستجير فيه وليكون واسطة بينه وبين الباشا وهو رجل ظاهره خلاف باطنه فذهب معه إلى الباشا فبش في وجهه ورحب به وأجلسه محمود بك في ناحية من المجلس وتناجى هو مع الباشا ورجع إليه يقول له أنه يقول إن الحساب لم يتم إلى هذا الحين وأنه ظهر على أبيك تاريخ أمس خمسة آلاف كيس وزيادة وأنا تكلمت معه وتشفعت عنده في ترك باقي الحساب والمسامحة في نصف المبلغ والكسور فيكون الباقي ألفين وخمسمائة كيس تقومون بدفعها فقال ومن أين لنا هذا القدر العظيم وقد عزلنا من المنصب أيضاً حتى كنا نتداين ولا يأمننا الناس إذا كان القدر دون هذا فرجع إلى الباشا وعاد إليه يقول له لم يمكني تضعيف القدر سوى ما سامح فيه، وأما المنصب فهو عليكم وفي غد يطلع والدك ويتجدد عليه الإبقاء وينكمد الخصم وعلى الله السداد ونهض وقبل يده وتوجه فنزل إلى دارهم وأخبر والده بما حصل فزاد كربه، ولم يسعه إلا التسليم وركب في صبحها وطلع إلى الباشا فخلع عليه ونزل إلى داره بقهره وشرع في بيع تعلقاته وما يتحصل لديه.
وفي يوم الاثنين ثالث عشره، خلع الباشا على مصطفى أفندي ونزل إلى داره وأتاه الناس يهنؤنه بالمنصب.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه، وردت بشائر بتملكهم الطائف وهروب المضايفي منها فعملوا شنكاً وضربوا مدافع كثيرة من القلعة وغيرها ثلاثة أيام في كل وقت أذان وشرع الباشا في تشهيل ولده إسمعيل باشا بالبشارة ليسافر إلى إسلامبول وتاريخ تملكها في سادس عشرين المحرم.
وفي هذه الأيام ابتدعوا تحرير الموازين وعملوا لذلك ديواناً بالقلعة وأمروا بإبطال موازين الباعة وإحضار ما عندهم من الصنج فيزنون الصنجة فإن كانت زائدة أو ناقصة أخذوها وأبقوها عندهم وإن كانت محررة الوزن ختموها بختم وأخذوا على كل ختم صنجة ثلاثة أنصاف فضة وهي النصف أوقية والأوقية إلى الرطل الذي يكون وزنه غير محور يعطونه رطلاً من حديد ويدفع ثمنه مائة نصف فضة والنصف رطل خمسون وهكذا وهو باب ينجمع منه أكياس كثيرة.
وفيه أيضاً طلب الباشا من عرب الفوائد غرامة سبعين ألف فرانسة فعصوا ورمحوا بإقليم الجيزة وأخذوا المواشي وشلحوا من صادفوه ورمح كاشف الجيزة عليهم فصادف منهم أباعر محملة أمتعة لهم وصحبتهم نساء وأولاد فأخذهم ورجع بهم.
وفيه سافر إبراهيم بك ابن الباشا إلى ناحية قبلي ووصلت الأخبار بوقوع الطاعون بالإسكندرية فاشتد خوف الباشا والعسكر مع قساوتهم وعسفهم وعدم مرحمتهم.

.شهر ربيع الأول سنة 1228:

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الخميس، وفيه قلدوا شخصاً يسمى حسين البرلي وهو الكتخدا عند كتخدا بك وجعلوه في منصب بيت المال وعزلوا رجب آغا وكان إنساناً سهلاً لا بأس به، فلما تولى هذا أرسل لجميع مشايخ الخطط والحارات وقيد عليهم بأنهم يخبرونه بكل من مات من ذكر أو أنثى ولو كان ذا أولاد وورثة أو غير ذلك، وكذلك على حوانيت الأموات وأرسل فرمانات إلى بلاد الأرياف والبنادر بمعنى ذلك.
وفي يوم الأحد رابعه، طلب الباشا حسن أفندي الروزنامجي وطلب منه ما قرره عليه وكان قد باع حصصه وأملاكه وأدر مسكنه، فلم يوف إلا خمسمائة كيس فقال له مالك لك توف القدر المطلوب وما هذا التأخير وأنا محتاج إلى المال، فقال لم يبق عندي شيء، وقد بعت التزامي وأملاكي وبيتي وتداينت من الربويين حتى وفيت خمسمائة كيس وها أنا بين يديك فقال له هذا كلام لا يروج علي ولا ينفعك بل أخرج المال المدفون فقال لم يكن عندي مال مدفون وأما الذي أخبرك عنه فيذهب فيخرجه من محله فحنق منه وسبه وقبض على لحيته ولطمه على وجهه وجرد السيف ليضربه فترجى فيه الكتخدا والحاضرون فأمر به فبطحوه وأمر القواسة الأتراك بضربه فضربوه بالعصي المفضضة التي بأيديهم بعد أن ضربه هو بيده عدة عصي وشج جبهته حتى أتوا عليه، ثم أقاموه وألبسوه فروته وحملوه وهو مغشى عليه وأركبوه حماراً وأحاط به خدمه وأتباعه حتى أوصلوه إلى منزله وأرسل معه جماعة من العسكر يلازمونه ولا يدعونه يدخل إلى حريمه ولا يصل إليهم منه أحد وركب في أثره محمود بك الدويدار بأمر الباشا وعبر داره ودار أخيه عثمان أفندي المذكور وأخذه صحبته إلى القلعة وسجنوه وأما ولده وأخواه فإنهم تغيبوا من وقت الطلب واختفوا ونزل في اليوم الثاني إبراهيم آغا أغات الباب يطالبه بغلاق ثمانمائة كيس وقتئذ فقال له وكيف أحصل شيئاً وأنا رجل ضعيف وأخي عثمان عندكم في الترسيم وهو الذي يعينني ويقضي أشغالي وأخذتم دفاتري المختصة بأحوالي مع ما أخذتموه من الدفاتر فأقام عنده إبراهيم آغا برهة، ثم ركب إلى الباشا وكلمه في ذلك فأطلقه له أخاه ليسعى في التحصيل.
وفي حادي عشره، عدى الباشا إلى بر الجيزة بقصد السفر إلى بلاد الفيوم وأخذ صحبته كتبة مباشرين مسلمين ونصارى وأشاع أن سفره إلى الصعيد ليكشف على الأراضي وروكها وارتحل في ليلة الثلاثاء ثالث عشره بعد أن وجه ابنه إسمعيل إلى الديار الرومية في تلك الليلة بالبشارة. وفي خامس عشرينه، حضر لطيف آغا راجعاً من إسلامبول وكان قد توجه ببشارة فتح الحرمين وأخبروا أنه لما وصل إلى قرب دار السلطنة خرج لملاقاته الأعيان وعند دخوله إلى البلدة عملوا له موكباً عظيماً مشى فيه أعيان الدولة وأكابرهم وصحبته عدة مفاتيح زعموا أنها مفاتيح مكة وجدة والمدينة وضعوها على صفائح الذهب والفضة والعطر والطيب وخلفهم الطبول والزمور وعملوا لذلك شنكاً ومدافع وأنعم عليه السلطان وأعطاه خلعاً وهدايا، وكذلك أكابر الدولة وأنعم عليه الخنكار بطوخين وصار يقال له لطيف باشا.
وفيه وردت الأخبار بقدوم قهوجي باشا ومعه خلع وأطواخ للباشا وعدة أطواخ بولايات لمن يختار تقليده فاحتفل الباشا به عندما وصلته أخباره وأرسل إلى أمراء الثغور بالإسكندرية ودمياط بالاعتناء بملاقاته عند وروده على ثغر منها.
وفيه حضر خليل بك حاكم الإسكندرية إلى مصر فراراً من الطاعون لأنه قد فشا بها ومات أكثر عسكره وأتباعه.

.شهر ربيع الثاني سنة 1228:

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الأحد في ثامنه، حضر الباشا على حين غفلة من الفيوم إلى الجيزة وأخبروا أنه لما وصل إلى ناحية بني سويف ركب بغلة سريعة العدو ومعه بعض خواصه على الهجن والبغال فوصل إلى الفيوم في أربع ساعات وانقطع أكثر المرافقين له ومات منهم سبعة عشر هجيناً.
وفي يوم الثلاثاء عاشره، عملوا مولد المشهد الحسيني المعتاد وتقيد لتنظيمه السيد المحروقي الذي تولى النظارة عليه وجلس ببيت السادات المجاور للمشهد بعد أن أخلوه له وفي ذلك اليوم أمر الباشا بعمل كورنتينه بالجيزة ونوه بإقامته بها وزاد به الخوف والوهم من الطاعون لحصول القليل منه بمصر وهلك الحكيم الفرنساوي وبعض نصارى أروام وهم يعتقدون صحة الكورنتينة وأنها تمنع الطاعون وقاضي الشريعة الذي هو قاضي العسكر يحقق قولهم ويمشي على مذهبهم ولرغبة الباشا في الحياة الدنيا، وكذلك أهل دائرته وخوفهم من الموت يصدقون قولهم حتى أنه اتفق أنه مات بالمحكمة عند القاضي شخص من أتباعه فأمر بحرق ثيابه وغسل المحل الذي مات فيه وتبخيره بالبخورات وكذلك غسل الأواني التي كان يمسها وبخروها وأمروا أصحاب الشرطة أنهم يأمرون الناس وأصحاب الأسواق بالكنس والرش والتنظيف في كل وقت ونشر الثياب وإذا ورد عليهم مكاتبات خرقوها بالسكاكين ودخنوها بالبخور قبل ورودها، ولما عزم الباشا على كورنتينة الجيزة أرسل في ذلك اليوم بأن ينادوا بها على سكانها بأن من كان يملك قوته وقوت عياله ستين يوماً وأحب الإقامة فليمكث بالبلدة وإلا فليخرج منها ويذهب ويسكن حيث أراد في غيرها ولهم مهلة أربع ساعات فانزعج سكان الجيزة، وخرج من خرج وأقام من أقام، وكان ذلك وقت الحصاد ولهم مزارع وأسباب مع مجاوريهم من أهل القرى ولا يخفى احتياجات الشخص لنفسه وعياله وبهائمه فمنعوا جميع ذلك حتى سدوا خروق السور والأبواب ومنعوا المعادي مطلقاً وأقام الباشا ببيت الأزبكية لا يجتمع بأحد من الناس إلى يوم الجمعة فعدى في ذلك اليوم وقت الفجر وطلع إلى قصر الجيزة وأوقف مركبين الأولى ببر الجيزة والأخرى في مقابلتها ببر مصر القديمة فإذا أرسل الكتخدا أو المعلم غالي إليه مراسلة ناولها المرسل للمقيد بذلك في طرف مزراق بعد تبخير الورقة بالشيح واللبان والكبريت ويتناولها منه الآخر بمزراق آخر على بعد منهما وعاد راجعاً فإذا قرب من البر تناولها المنتظر له أيضاً بمزراق وغمسها في الخل وبخرها بالبخور المذكور، ثم يوصلها لحضرة المشار إليه بكيفية أخرى فأقام أياماً وسافر إلى الفيوم ورجع كما ذكر وأرسل مماليكه ومن يعز عليه ويخاف عليه من الموت إلى أسيوط.
وفي يوم السبت سابعه، نودي بالأسواق بأن السيد محمد المحروقي في شاه بندر التجار بمصر وله الحكم على جميع التجار وأهل الحرف والمتسببين في قضاياهم وقوانينهم وله الأمر والنهي فيهم.
وفيه وصل إلى مصر عدة كبيرة من العساكر الرومية على طريق دمياط ونصبوا لهم وطافا خارج باب النصر وحضر فيهم نحو الخمسمائة نفر أرباب صنائع بنائين ونجارين وخراطين فأنزلوهم بوكالة بخط الخليفة.
وفي يوم الأحد ثامنه، تقلد الحسبة الخواجا محمود حسن ولبس الخلعة وركب وشق المدينة وأماه الميزان فرسم برد الموازين إلى الأرطال الزياتي التي عبره الرطل منها أربع عشرة وقية في جميع الأدهان والخضراوات على العادة القديمة ونقص من أسعار اللحم وغيره ففرح الناس بذلك ولكن لم يستمر ذلك.
وفي يوم الأربعاء حادي عشره بين الظهر والعصر كانت السماء مصحبة والشمس مضيئة صافية فما هو إلا والسماء والجو طلع به غيم وقتام ورياح نكباء غربية جنوبية وأظلم ضوء الشمس وأرعدت رعدتين الثانية أعظم من الأولى وبرق ظهر ضوءه وأمطرت مطراً متوسطاً، ثم سكن الريح وانجلت السماء وقت العصر، وكان ذلك سابع بشنس القبطي وآخر يوم من نيسان الرومي فسبحان الملك الفعال مغير الشؤون والأحوال وحصل في تاليه يوم الجمعة مثل ذلك الوقت أيضاً غيوم ورعود كثيرة ومطر أزيد من اليوم الأول.